أعلنت عائشة عبدالهادي وزيرة القوي العاملة والهجرة أن عدد الراغبين في الهجرة 85 ألف شخص.. وهؤلاء بالطبع هم الذين يعربون عن رغبتهم.. ويتقدمون بطلبات الهجرة إلي الوزارة.. بصفتها مسئولة عن... الهجرة.. أما الذين يخططون للهجرة بطرق غير شرعية فلا أحد يعلم بالضبط عددهم ومن المؤكد أنهم بمئات الألوف، وربما أكثر من ذلك بكثير.. ورحم الله زماناً كان المصري الذي يسافر للعمل في القاهرة يحلف بغربته،
أي اغترابه عن مدينته أو قريته التي يمكن أن تكون في القليوبية أو المنوفية.. الآن بات المصري لا يهمه إن هاجر الي أمريكا.. أو إلي استراليا.. وفي جنوب أفريقيا مهاجرون مصريون عديدون!!
** والمصري »يكافح« من أجل الهجرة من الوطن، بعد أن بات مهاجراً ومغترباً.. داخل الوطن.. وما أقسي الشعور بالاغتراب داخل الوطن، فالمصري يستطيع أن يتحمل البعد عن الديار لعدة سنوات.. ولكنه يقاسي المرارة كلها إذا أحس بالاغتراب داخل وطنه وبين مواطنيه.. والمصري ـ زمان ـ كان يقبل الاغتراب عن الوطن ليعمل في ليبيا أو في السعودية ودول الخليج عدة أعوام.. ولم يكن ينعم هناك بالراحة النفسية.. وكانت حياته هناك يراها مؤقتة.. حتي وان اشتري ملابس جيدة، كان يؤجل لبسها إلي أن يعود إلي الوطن.
فكل شئ كان مؤجلاً.. لما بعد عودته للوطن..
** وكان يحول معظم مدخراته ـ أولاً بأول ـ إلي الوطن ليشتري شقة أو يبني بيتا في قريته بالطوب الأحمر والمسلح.. وكان حريصاً علي متابعة أخبار الجمارك وقوانينها حتي يعرف أي ميزة فيما لو سافر بسيارة جديدة إلي الوطن.. إلي أهله.. وكان كذلك في كل ما يشتري من ثلاجة وغسالة وحتي البوتاجاز.. الي التليفزيون والراديو والرسيفر ومستلزمات الدش.. كان يرسل كل شئ إلي الوطن.. لأنه سيعود يوماً إلي هذا الوطن طالت مدة الاغتراب أو صغرت.. والفلاح منهم كان يعشق الإدخار لكي يشتري أرضاً.. ليزرعها عندما يعود..
** الآن كل شئ تغير.. تحول المصري ـ في الخارج ـ إلي مستهلك رهيب.. فهو يري قيمة العملة تنهار يوماً بعد يوم.. ورأي المودات تتطور.. وسماسرة الأراضي والشقق يتلاعبون حتي التهبت الأسعار وفاقت كل حد.. فلماذا يدخر؟!!.
ونفس هذا السلوك الاستهلاكي أصاب المصري الذي بقي داخل الوطن.. وهكذا تحولنا ـ كلنا ـ إلي أكبر شريحة من المستهلكين في العالم كله.. وشعار الكل: تنعموا.. قبل أن تجف الآبار والأموال.
وبعد أن كان الاقتصاد المصري يعتمد علي تحويلات المصريين العاملين في الخارج ها نحن نري من يقترض أو يبيع ما يملك.. أو يرهنه ليدبر عشرات الألوف من الجنيهات.. ليرحل عن هذا الوطن.. ليهرب منه فلم يعد هذا الوطن يحن علي المواطن.. ولم يعد يوفر له لقمة العيش، فقرر أن يهرب منه.. يهرب ولو إلي الموت في بطون أسماك القرش.. أو يغرق وسط أمواج بحار شديدة البرودة..
المهم أن يهرب.. فهل تلك هي نهاية وطن؟!
** نعم الهجرة إلي الله ورسوله دعانا إليها ديننا الإسلامي.. أما الهجرة إلي لقمة العيش فهذه هي قمة المأساة.. والمسئولية تقع علي الحكومة.. لأنها لم تعرف كيف تدير ثروة الوطن.. ولم تحقق العدالة للكل، للمحتاج.. قبل القادر. ولم تعرف معني العدل الاجتماعي، والمساواة في الفرص.. والحياة..
ووزيرة الهجرة سعيدة أن زاد عدد الراغبين في الهجرة الشرعية.. ولكن هل هي سعيدة بقفزات عدد الراغبين في الهجرة غير الشرعية.. وهي أرقام ليست متاحة لها ولا لوزارتها.
وهل تعلم الوزيرة أن المصري الآن أينما كان يحلم بيوم يغادر فيه أرضه.. ويهرب من وطنه.. والكل سواء من مدن السواحل الي القري الفقيرة في دلتا مصر التي كانت تجذب كل راغبي العمل من كل الشعوب المجاورة.. ثم انتشر حلم هجرة الوطن إلي الصعيد وامتد إلي أهله الذين »كانوا« يتفاخرون بأنهم بناة مصر العظيمة علي مدي الزمن..
** وبئس السياسة التي تجعل المواطن يهجر وطنه.. وأتمني لمعالي الوزيرة كل نجاح وان تعمل علي تحقيق حلم الهاربين.