علمتني الحياة أنني ما حرصت علي بلوغ شيء فبلغته , إلا وأكون قد زهدته . لا أري البيت الذي أسكنه – وكنت أتطلع إلي مثله في مقتبل حياتي _ إلا شيئا عاديا لا يشقي ولا يريح . لا أري الجاه الذي بلغته _ وكنت أنظر إلي مثله في غيري فأتوق إليه _ إلا شيئا فارغا لا ينقص ولا يزيد , فعلمت أن الحياة تافهة , ما لم يرسم الإنسان لنفسه هدفا ساميا يسعى لتحقيقه , هدفا يعلو عن المادة , ويبقي علي الزمن .
علمتني الحياة أن الناس في درك هاو من الخسة , وفي درجة عالية من السمو , ينطوون علي الشر والخير , ويهبطون بقدر ما يرتفعون , فالناس لا يخلصون شياطين , ولا يتمحضون ملائكة , والعاقل من لبس الناس علي حالهم , لا يزهد في الصديق وإن بدا شره , ولا يقطع ما بينه وبين الناس لجرح لا يلبث أن يندمل , ولعارض لا يلبث أن يزول .علمتني الحياة أن حظوظ الناس تبدو متفاوتة أكثر من حقيقتها , وهم في الواقع متقاربون في الشقاء والسعادة , لكل من حظه ما يسعده ومن همه ما يشقيه .
علمتني الحياة أن نجاحي فيها رهن بإيماني بنفسي وإيمان الناس بي , فقد كانت ثقتي بنفسي تدفعني إلي العمل , وكانت ثقة الناس بي تجعلني أطمئن إلي نتيجة عملي . وهذا القدر المتوازن من ثقة الإنسان بنفسه وثقة الناس به , لا بد منه لنجاحه في الحياة , فإن زادت ثقته في نفسه علي هذا القدر , كان ذلك غرورا يضله عن الحقائق , وإن جاوز اعتماده علي ثقة الناس به هذا القدر, بحيث لا يصدر إلا عن رأي الناس ولا ينزل إلا عند هواهم , كان ذلك ضعفا واضطرابا يورثان انقيادا واستسلاما . كما أدركت أن ذلك ضروري في الواقعية والخيال فإن زادت الواقعية علي الحد الواجب , كان ذلك جمودا وضيقا في الأفق , وإن زاد الخيال كان ذلك ميوعة وإغراقا في البعد عن الحقائق ,وهو ضروري في المادية والروحية , فإن زادت المادية كان ذلك بلادة وتنكر للقيم العليا في الحياة , وإن زادت الروحية , كان ذلك عجزا عن مواجهة الحياة في حقائقها المادية . وهو ضروري في الاختلاط بالناس والانطواء علي النفس , وإلا كان الإمعان في الاختلاط بالناس إهدارا للشخصية , وكان الإغراق في الانطواء علي النفس عزلة ضارة .
علمتني الحياة أن الغفلة عن المستقبل من أهم أسباب الراحة , وما تعبت لشيء أكثر من تعبي عندما أفكر في المستقبل , وعلمتني الحياة أن أتعلم منها كل يوم, ولا أنقطع عن التعلم منها حتى تنقضي الحياة .