جلست أتأمل شعار مؤتمر الحزب الوطني التاسع «بلدنا بتتقدم بينا»، فوجدته يتحول لدي إلي صورة ذهنية تمثل قطارا متعدد المستويات، العربة الأولي منه ذات مستوي مرتفع، تتوفر فيها كل الكماليات والإمكانيات، ويجلس فيها قيادات الحزب الوطني، أما العربة الثانية، فيجلس فيها المحبون والغاوون وأهل الحظوة والمال. فيما يحتل الشعب باقي عربات القطار، عربات درجة ثالثة بلا نوافذ ولا خدمات.
المؤلم أن العربة الأولي انفصلت مع القاطرة وواصلت المسير، يتحدث فيها الجالسون - وهم يتناولون طعامهم الفاخر، بأزيائهم الفاخرة، وبأفكارهم الفاخرة- عن اهتمامهم بسكان عربات القطار، يتباهون بما أنجزوه، يواصلون وعودهم، ويؤكدون لكاميرات التليفزيون والصحفيين أن «بلدنا بتتقدم بينا»، هم لم يكذبوا، فما يقولونه هو الحقيقة، «بلدهم تتقدم بيهم»، أما بلدنا فهي تتأخر بنا، تغرق بنا، تتكدس بنا، تتصادم بنا.
أيام انعقاد مؤتمر الحزب حدثت الكارثة، غرق ١٨٤ مصريا علي سواحل إيطاليا، ١٨٤ شابا من ركاب الترسو، قرروا الهروب والبحث عن حلم حتي لو كان الثمن حياتهم. نجا منهم ٤٩ شابا وانتشلوا ٢٤ جثة، فيما اختفي ١١١ شابا لا يعرف أحد مصيرهم، والظن الأكبر أنهم هناك في قاع البحر.
آلاف البيوت في محافظة الدقهلية اتشحت بالسواد وعلاها الصراخ، فيما يأتي خبر أبنائها علي استحياء في الصحف، وعلي شاشات التليفزيون، لأنها مشغولة فقط بتصريحات ركاب العربة الأولي.. «لا داعي أن تلقي الكرسي في الكلوب»، «بشر ولا تنفر»، «لا تحبطوا الناس ولا تشيعوا حالة من التشاؤم» «ألا تلاحظوا أن بلدنا بتتقدم بينا»،
لو كان هؤلاء الشباب الهاربون إلي الموت آمنوا أو صدقوا أن «بلدهم بتتقدم بيهم»، ما غامروا ولا سافروا ولا قالوا لأنفسهم «الموت غرقا أشرف بكثير من الموت وقوفا أو في عربات معطلة علي قضبان متآكلة»، هؤلاء الشباب لم يصدقوا الحزب الوطني ولا مؤتمراته وفقدوا حتي المقدرة علي الحلم، فلو حلموا لظلوا في بلادهم علي أمل أن تتقدم بهم، ولكنه اليأس الذي يعادل عندهم الموت.
ألم يتأملوا أرقام الحزب: انخفاض معدل التضخم، زيادة الصادرات، خفض الواردات، ارتفاع مستوي الدخل؟ ألم يفهموا معني إعلان الهيئة العليا للحزب أن كل قيادات الحزب باقية في مواقعها؟ ألم يدفعهم هذا للتفاؤل ألم يطمئنوا إلي أن صفوت الشريف لايزال أمينا للحزب الوطني، ألم يستوعبوا معني الاستقرار؟ للأسف تعجلوا الموت ولم ينتظروا حتي يرون أين ستستقر العربة الأولي المسرعة، التي نتمني أن تتقدم أكثر وأكثر براكبيها، ويتركونا لأحزاننا وأحلامنا القتيلة!