في ليلة عيد الفطر بكى المصريون كما لم يبكوا من قبل . بكى المصريون أنفسهم وتعاستهم وإخفاقهم وحظهم المنكود ونصيبهم البائس ، مع أنهم يملكون ميزات كثيرة ، وإمكانات كبيرة لا يملكها غيرهم .
حين ماتت " ماما نونا " في مسلسل " يتربى في عزو " ؛ انهار المصريون ، وسحّوا الدموع مدرارا ، وتداخل البكاء بين ما هو شخصي وما هو عام .. فقد أحسّوا أنهم فقدوا كل شيء ، ولم يعد هناك ما يستحق البقاء ، بعد أن هانت مصر على بنيها ، أو معظم بنيها ، ولم يجدوا غضاضة في بيعها بثمن بخس للطامعين و الأشرار !
هل كان المصريون ينتظرون تلك اللحظة منذ زمان لينهنهوا و " يتشحتفوا " في ليلة " مفترجة " يحلو فيها الفرح والسمر والبشر والسرور ؟
لا ريب أن الواقع المصري أقوى من كل مسلسلات العالم ، فلا يكاد يمضى يوم دون حدث جلل يكشف معالم نظام متهاو آثر أن تكون ليده – بدلاً من عقله – الكلمة العليا ، فجعل من " النبوت " وسيلة " ضبط " و " ربط " فيما يتعلق ببقائه ووجوده واستمراره .. ومع أن كتّاب النظام وخدّامه لا يكفون ليل نهار عن معايرتنا نحن المصريين واتهامنا بالتخلف العقلي وعدم العقلانية ، فإن أحداً منهم لم يقل للنظام استخدم " مخك " بدلاً من " يدك " ، ثم انظر حولك كيف يتصرف العالم ، بل الجيران الأعداء الغرباء الغزاة ، كيف يستخدمون عقلهم في الإدارة والعلم والعمل والحياة .
مثلاً في الوقت الذي كانت فيه أجهزة الدعاية مشغولة بقضية تافهة حول شائعة مرض رئيس الدولة ، كان اليهود يقومون بتدمير منشأة عسكرية سورية يُقال إنها كانت بداية لمشروع نووي ، وكان وزير دفاعهم يتنزه مع جنوده على الأرض السورية ليتفقد الموقع الذي تم قصفه على أرض الواقع .. يا للعار !
ومثلاً : بينما كان النظام كله مشغولاً بحبس الصحفيين المعارضين ، وتجييش دعايته وفقهاء الشرطة ووعّاظ السلطة لتسويغ جلد المعارضين وإذلالهم ، فإن ملايين المصريين كانوا يتقاتلون أمام المخابز البلدية بحثاً عن بضعة أرغفة ، بعد أن شحّ " القمح " ، واختفى " الدقيق " ، وعاث المحتكرون الفاسدون المفسدون في الأرض ظلماً ونهبا وخرابا ..
لماذا لا تبكى مصر نفسها وعلى نفسها وعلى أحوالها ، وقد صارت في مؤخرة الأمم لا تقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ ، بعد أن اقترضت بالربا ، وأحلت الربا ، وتعاملت بالربا ؟
بحثت طوال شهر المسلسلات والفوازير والعوالم عن أحد العلماء أو الباحثين يظهر على شاشة التلفزة أو نسمع صوته عبر موجات الإذاعة ، ولكنى لم أعثر فيما شاهدت بأحد منهم إلا مرتين مرة في رمضان وأخرى بعد العيد ..
الأولى كانت مع عالم جليل في الأزهر يُراجع الأعمال الأدبية والفنية التي يثور حولها جدل بسبب ما تحتويه من إساءات أو تصورات معادية للإسلام والعقيدة ، وقد استضافته مذيعة لا تقوى شوكتها هي ومن وظفها إلا على الإسلام والمسلمين ، وراحت تجلد الرجل بلسانها وتنهره وتزجره ، وهى في منزلة ابنته ، والشيخ الفاضل الذي كان يرتدى بدلة ، يُطيل حبال الصبر ويُحاول بكل طاقته أن يفرغ شحنتها العدوانية ، ولكنها كانت مصرة على إدانته بل إدانة الإسلام وقواعده ، من أجل عيون " إعلام الريادة " – رحمه الله !
في المقابل ، فقد استضافت هذه المذيعة واحدة من العوالم أو الغوازي ، وكانت تتحدث معها بكل رقة وأدب ، بل كادت تتماهى مع " الغازية " – المودرن – وهى تسألها عن فضائحها التي اشتهرت بها بين خلق الله !
وحين تقارن ما جرى للعالم الأزهري وللغازية المودرن ، فلك أن تتأكد أن مصر لم تبك " ماما نونا " ، بل كانت تبكى أجمل قيمها التي ضاعت ، وأغنى ثرواتها التي نهبت ، وأغلى ممتلكاتها التي خُرّبت .
المرة الأخرى ، كانت لقاء مع العالم المصري – الأميركي الجنسية – فاروق الباز ، أستاذ الجيولوجيا بجامعة بوسطن ، فقد ظهر على شاشة التلفزة ليحكى عن أحلامه " العلمية " لوطنه ، والفارق بين البحث العلمي هنا ، والبحث العلمي هناك ، فأثار أشجانا مزمنة ؛ وخاصة عندما اتصل به أحد أصدقائه وزملائه القدامى ، وبدا التفاوت كبيراً بين وطن ضائع تحت هراوة النظام البوليسي الفاشي وتجلياته الخائبة ، وبين وطن ديمقراطي يعمل فيه الناس بحريّة وإبداع وعدالة ، حتى لو كان يمارس الجريمة خارج حدوده !
حمدت الله أن المذيعة لم تجلد فاروق الباز ولم تنهره ولم تزجره ، ربما كانت خائفة من جنسيته الأمريكية ، فالجنسية الأمريكية لها تجليات لا تخفى على أحد ..
لنا أن نتصور بعدئذ نوعية الذين اهتم بهم الإعلام الرسمي وإعلام رجال القروض الذي يُسمى تجاوزاً بالإعلام الخاص ، إنهم – كما يقول البعض – " كريمة " المجتمع الرخو الفاسد من عوالم ومهرجين وطبالين وزمارين ومثقفي حظيرة وكتاب بلاط ولاعبي كرة ومصفقين للسلطة في السراء والضراء وكذابي زفة ..
ثم لنا أن نؤكد للدنيا أن جهاز إعلام يُخصص أكثر من شهر لاستضافة تجار المسلسلات وصانعيها ، ويمنحهم من الوقت ما لا يمنحه لكبار المسئولين في الدولة ، لهو معبر خير تعبير عن نظام يتداعى ، بعد أن فقد الرشد والصواب .. وإلا بالله ، ماذا يعنى أن يستضيف هذا الإعلام على معظم قنواته وموجاته المخرجين والمؤلفين والمنتجين والممثلين .. حتى الأطفال الذين قاموا ببعض الأدوار القصيرة جاءوا بهم ، وبعضهم كان يُغالب النوم ، ليتحدثوا عن العظمة و الأستاذية والحرفنة لفلان أو علان أو ترتان ..
ثم يا للعجب ، جاءوا بمن سمّوهم نقاداً فنيين ليدلوا بآرائهم النقدية في " شر البلية " ومع أنني من المعنيين بالنقد الأدبي على مدى أكثر من أربعين عاما ، فلم أر ناقداً أدبياً يظهر على الشاشة ويتناول عملاً أدبياً حقيقياً ، ويجد حفاوة مناظرة لما يُسمى ب " النقد الفني " !
قبل ربع قرن تقريبا كانت هناك بعض البرامج الأدبية التي تتضمن نقداً ونقاداً ، ولكنها تلاشت في زمن الدولة الرخوة ، أو الدولة البالوظة ، ليبقى على سطحها المسلسلات الرديئة وأهل الفن الهابط وجوقة النفاق !
ويحق للمصريين بعدئذ أن يبكوا على أنفسهم ، وليس على ماما نونا ، في مسلسل يقول فيه واحد لآخر رآه يهتم بالدين : أنت حتصبح إرهابي؟ !!
واسلمي يا مصر
الأربعاء أكتوبر 24, 2007 2:17 am
